ومن البحوث ما يسمى (بالبحوث الروحية)، ( وهى فرع من علم النفس الحديث، وهدفها محاولة الكشف عن المميزات الإنسانية غير العادية، وقد أقيم أول معهد لإجراء هذا النمط من البحوث عام 1882م في إنجلترا. وبدأ علماء المعهد عملهم سنة 1889م، بعد أن قاموا بمسح واسع النطاق على 17 ألف من المواطنين، ولا يزال هذا المعهد موجودًا باسم (جمعية البحوث الروحية). وقد انتشرت معاهد كثيرة في مختلف بلدان العالم، وأثبتت هذه المعاهد، بعد بحوثها وتجاربها الواسعة النطاق أن الشخصية الإنسانية تواصل بقاءها بعد فناء الجسد المادي، في صورة غريبة). ( )
والواقع أنه لا أحد يستطيع الاتصال بالعالم البرزخى، وما يحدث أن هؤلاء الروحانيون يجرون أبحاثهم على إحدى مظاهر من ذلك النوع من الاتصال الحاصل بين عالم الإنس والجن، بدعوى أنهم يتصلون بعالم الأرواح، حيث صارت كلمة (الأرواح) بمرور الوقت كلمة مطاطة تطلق على الأرواح والجن والملائكة، فلا يعنى هذا أنهم أثبتوا وجود عذاب القبر ونعيمه، بل يؤكد ما نحن بصدده من إثبات وجود علاقة بين عالم الإنس والجن، ووجود حلقة اتصال بينهما عن طريق حدوث المس، والحق أنهم هم وأتباعهم قد ضلوا بسبب تفسير الدين على أساس الواقع وما أثبتته التجربة لهم، ولو أنهم انطلقوا من الإيمان بما أنزل الله في كتابه عن عالم الغيب لوصلوا إلى الحق ولاهتدوا.
ويصف سيسرو أحد الأساطير الرومانية القديمة فيقول: (إن روملوس _ عندما قام بتشييد مدينة روما _ حفر حفرة دائرية على النحو الذي كان متبعا منذ القدم لجلب الفأل الحسن، وكانت تقذف في تلك الحفرة حفنة من تراب أرض وطن كل واحد من الذين يشهدون هذا الحفل، وكانت هذه الحفرة بمثابة الطريق إلى العالم الآخر الذي يوصل الأحياء بالأموات. وفى أثناء حفر هذه الحفرة كانت تستحضر أرواح الأسلاف لتقطن هذا المكان وتخالط الأهالى. وبهذه الطريقة يدخل الأحياء والأموات المدينة في الوقت نفسه. ولقد تبقى من هذا التقليد عادة دفن بعض المستندات والنقود في أساسات المبانى التي تقام. ونجد بقايا لهذا التقليد في الهند حيث تسكب في حفرات على مقربة من المعابد دماء الفديات المقدمة كما يدفن بعض المعادن النفيسة).( )
ونجد أن هذا الطقس السحرى الوثنى (الذي يعد في حقيقته استجلابًا للجن والشياطين وليس للأرواح) قد أخذ صورة معاصرة متطورة، بما يسمى [بوضع حجر الأساس]، حيث صار يمارسه الساسة ورجال الأعمال عند البدء في بناء المشاريع الكبرى، وإن كانوا لايقصدون بذلك استجلاب الأرواح أو الشياطين، ولكن ذلك التقليد الأصل فيه أنه عبادة وثنية للشيطان وليس عادة.
(وتبدأ قصة نشأة تحضير الأرواح برواية عن حادثة وقعت، كما يزعمون، سنة 1846م في أمريكا وذلك عندما سمع أمريكى يسكن قرية (هيد سفيل) في مقاطعة نيويورك، طرقات ذات ليلة على أرض بيته فذهب ليكتشف الفاعل فأعيته الحيل فصبر على مضض ولكنه ذات ليلة قام مذعورًا من صراخ ابنته الصغيرة فسألها عما أصابها فزعمت أنها أحست بيد تمر على جسدها وهى في السرير، فلم ير الرجل بدأ من ترك المنزل. وقد خلفه في سكناه رجل آخر يسمى(جون فوكس) فحصل لأهله ما حصل لسلفه من الأصوات التي لا تجعل للنوم سبيلاً إلى الجفون، فكانت مدام فوكس تنادى جيرانها وتستعين بهم في البحث عن الفاعل فلم يهتدوا إليه، فتجاسرت المرأة ذات ليلة وقالت لذلك الطارق: أحدث عشر طرقات ففعل، فقالت له كم عمر ابنتى كاترين؟ فطرق طرقات على عدد سنى عمرها، قالت له إن كنت روحا فأحدث طرقتين أيضا ففعل قالت: إن كنت أوذيت من شىء فأحدث طرقتين ففعل، ولم تزل هذه المرأة به حتى علمت بواسطة الطرق أنها روح رجل كان ساكنًا في هذا البيت فقتله جاره ليسرق ماله ودفنه فيه.. فلم يسع مدام فوكس إلا أن استحضرت الجيران واستجوبت أمامهم فأجابت بما جعلهم في دهشة واقتناع في آن واحد إذ كان الأمر كما أخبرت الروح، وضبطت الحكومة الواقعة وأجرتها مجراها القانونى.. وقد شاع أمر هذا الحادث في جميع الأصقاع في أمريكا وغيرها وكثر ظهور مثلها لأن أمثالها كان يظهر كل جنى فلا يلتفت إليه، واتجه العلماء نحوها بالبحث والدراسة).( )
يقول مالينوفسكي: (في جانب، هناك الأعمال والطقوس الموروثة، التي يعتبرها الوطنيون مقدسة، ويتفذونها بالتبجيل والرهبة، ويحصنونها بالمعلومات وقواعد السلوك الخاصة. هذه الأعمال والطقوس مرتبطة دائما بالمعتقدات عن القوى الغيبية، فوق الطبيعة، خاصة قوى السحر، أو بأفكار عن الكائنات، الأوراح، الأشباح، الأسلاف الموتى، أو الآلهة.. ).( )
يجب أن لا نتفائل كثيرا عندما يطلق علماء الأنثروبولوجيا على الغيبيات مسمى (القوى العلوية)، (القوى الخفية)، (الكائنات العلوية)، (القوى الخارقة)، (ما فوق الطبيعة)، (العالم الروحانى)، (الطب الروحانى)، فهذا لايعد إقرارًا منهم بثابتة من ثوابت الدين، أو إيمانا بوجود الجن والملائكة والأرواح أو حدوث المس والسحر، لكنها محاولة منهم لإيجاد مسمى يطلق على وقائع وتجارب تحت اسم الخرافة، ونقولاتهم الميثولوجية الأسطورية لايعدوها سوى موروث ثقافى ذاتى يعبر عن معتقدات أصحابه، فلا يعدونه تفسيرًا لتلك الظواهر والعوالم الغيبية حتى لو تقابل مع التفسير الدينى في بعض أجزائه.
وإن كان هذا في الواقع إنكارًا وتفلتًا من زمام الدين والعقيدة، لكنهم بذلك يقرون ضمنًا بوجود مخلوقات مغايرة لنا غير ظاهرة للعيان، ولكنهم يرفضون الإقرار بالتفسير الدينى لأنهم يبحثون عن تفسير آخر يرضى أهوائهم، وبذلك يتبنون فكرًا إلحاديًا في صورة منهج علمى يخضع الغيبيات للتجربة، ليدحرجوا القضية إلى مفترق الطرق بعيدًا عن التفسير الدينى، مما يزيد قضية الغيبيات غموضًا أكثر، خاصة بعد أن وضعوا خيوط البحث بين أيديهم، وجرموا التفسيرات الدينية بضمها مع قائمة الخرافات والخزعبلات، وبالتالى صرفوا الناس عن التمسك بالتفسير الدينى للغيبيات، ووجهوهم في نفس ذات الوقت إلى قبول التجارب الروحية أو ما يطلقون عليه (جلسات تحضير الأرواح) والحقيقة أنها (جلسات تحضير الشياطين)، ليصلوا بذلك إلى تلك المسميات التي لاتقدم تفسيرًا شافيًا لذلك العى، وهذا يجرنا إلى قبول التفسير المادى والذى لايتفق وواقع عالم الغيبيات، إلى أن يظهر التفسير في وقت ما، وأعتقد أن هذا التوقيت سيتزامن وظهور المسيخ الدجال ونزول المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وحينها قد يأتى الندم متأخرًا.
والمسلسل الأميركي الشهير (The X Files) هو مثال لتناول مثل تلك القضايا بأسلوب استراتيجى مادي يهدف إلى إثارة الشغف بالكائنات المغايرة وبث الزعر في القلوب من أصحاب الأبحاث عن تلك الكائنات، لتظهر أجهزة الاستخبارات الأمريكية في صورة المحتكر الوحيد للبحث ولحقيقة تلك الغيبيات، لتنصب من نفسها وصية على شؤون العالم، وكأنها صاحبة الامتياز في الدفاع عن البشرية، فإن كان هذا المسلسل الأمريكى يرمى إلى الدعاية الأمريكية الاستراتيجية وكأن أمريكا هي الوصي على العالم في مقابلة العوالم الأخرى، إلا أنه تلاعب صريح بمعتقدات البشر، وباعث على إثارة الخرافات وتعميق أثرها في العالم كله، حيث لم يقدم ذلك المسلسل تفسيرًا لتلك الألغاز الغامضة.
وإن مثل تلك الأعمال الدرامية لا تقدم تفسيرًا لتلك الظواهر الغيبية بقدر ما تزيدها غموضا وتعقيدا، بوضع الالآف من علامات الاستفهام إلى جوار تلك القضايا المطروحة، بينما تظهر أمريكا بأجهزة استخباراتها وكأنها المالكة الوحيدة لمفتاح خزانة الأسرار الخطيرة، والحقيقة أن خزانتها خاوية تمامًا من الحق، فإن كانوا يمتلكون تكنولوجيا متطوره يتفوقون بها علينا، فهم في الواقع يمتلكون إلى جوارها أخلاقيات وضعية لاترقى حتى إلى أدنى مستوى من أخلاقيات إنسان الغاب، وإن كانوا يجيدون الترويج لسلعتهم البخسة، فلسنا أقل إجادة من أن نروج لسلعتنا النفسية (دين الإسلام)، بما تحمله من بلسم شافى يلئم جراح صرعى همجية القرن العشرين، ويرأب صدع الإنسانية التي لازالت تئن وتصرخ من جراء لى عنقها، واستشراف الباطل لها.
يقول مالينوفسكى: (في طقوس التأهيل InitIation نجد أن الطقوس تدعم وجود شخصية أو قوة أخرى يصدر عنها قانون القبيلة، وهى المسئولة عن الأحكام الأخلاقية المنقولة للشباب المؤهل. لجعل الاعتقاد مؤثرًا، قويًا، ومهيبًا، هناك جلال الطقس ومشاق الإعداد والاختبارات القاسية التي تخلف تجربة لا تنسى، في يده في حياة الشخص، وبهذا يتعلم مبادئ التقاليد القبلية وأحكام أخلاقياتها، تتحرك القبيلة كلها وتعمل كل سلطتها لتشهد على قوة وواقعية الأشياء التي تم كشفها).( )
من المؤكد أن تلك القوة صاحبة هذه القوانين لابد أن تكون عاقلة، ولها أهداف من وراء سن تلك القوانين التي تخالف الشرائع السماوية، وهذه القوانين والنظم والطقوس بمخالفتها للشرع السماوى تتفق كل الاتفاق مع قوانين السحر الذي هو دين الشيطان، ونستدل بذلك أن تلك القوة العاقلة المشرعة هي (الجن) أو (الشيطان) الشريك العاقل لنا على ظهر هذا الكوكب، ولكن علماء الأنثروبولوجيا لايتطرقون لهذا الاستنتاج ويخفونه وراء الاصطلاحات الروحية المجردة، ليحدث ذلك التباين بينهم كمتحضرين كما يدعون، وبين الأسطوريين (المخرفين) كما يطلقون عليهم، وإلا لانفضح أمرهم وثبت مشاركتهم للوثنيين في عبادة الشيطان، وهذا من أسباب إنكارهم وجود الجن وتملصهم من الاعتراف بعالم الجن، حيث لادليل مادى لديهم يؤكد ذلك بعد إنكارهم للدليل السماوى، وكأنهم في انتظار الإيقاع بعفريت من الجن والإمساك به وإيداعه في صندوق زجاجى ثم عرضه على شاشات التلفاز كدليل مادى يثبت صحة ما ورد في الكتب السماوية وما يتناقله المخرفين! وإنه لمن المؤسف حقًا أن نجد بيننا مسلمين من يتملص من الاعتراف بوجود الجن واعتدائه على بنى البشر، بل ويزدرون المعالجين ويتهكمون عليهم، يتشبهون بهؤلاء الملاحدة ويشاركونهم جهلهم وجاهليتهم وويحذون حذوهم، بينما السحرة على اختلاف كل ملة يحمل لهم كل تبجيل واحترام، وتنفق عليهم الأموال ببذخ ملحوظ.
امتحان الروح القدس:
يفرض الكتاب المقدس امتحان هذه الأرواح، والتأكد من حقيقتها، كونها شياطين أم ملائكة، لأن الشياطين عندهم كانت ملائكة في الأصل، وعلى هذا فهي تمتلك نفس قدرات الملائكة، وهذا يقتضي ضمنيًا أن يكون الممتحن عالمًا بتلك الفوارق مدركًا، قادرًا على تمييزها، وهذا ما وضعهم في زاوية حرجة، فمن له ذلك؟ وكيف يتم؟ ووفقًا لأي قواعد؟ وإلا فالجاهل بذلك لا يكلف نفسه ما لا طاقة لها به، ولينأى بنفسه عن هذه المغامرة، هذا ما يفرضه العقل الحصيف، إلا أننا نجد لديهم رأي آخر يجعل هذه المعرفة محصورة في أيدي أصحاب المواهب الروحية فقط، وهذا الامتحان هو ما يسمونه بتمييز الأرواح، وهو أحد مواهب الروح القدس المستمرة، ويدرج تحت قائمة مواهب خدمية غير منطوقة، كما سبق وبينا، وفي هذا يقول يوسف رياض: (في هذه الحالة يمكن أن يصل إلى المؤمنين لا وحي الله بل وحي الشطان، ويبدو أنه نظرًا لقدرة الشيطان الفائقة في الخداع، فإنه لم يكن سهلاً في كل الأحوال تمييز روح الله عن روح الضلال، فكانت تلزمه موهبة خاصة لتمييز الأرواح..).( )
وهذا يعني أن تمييز الأرواح عندهم، بحاجة أيضًا إلى الحصول على مواهب الروح القدس للتأكد من صحة نسبها! فلكي يؤمنوا بأحد الأنبياء، صاروا بحاجة لأنبياء مثله كي يحكموا بأن ما مؤيد بروح القدس!! وبهذا يجعلون المعجزات والكرامات حكرًا على رجال الكنيسة، والحقيقة أن الأمر بحاجة إلى علم صحيح، يعتمد عليه في تميز حقيقة هذه الأرواح، يستوي فيه المؤمن والكافر، وإلا درنا في رحى حلقة مفرغة لن تنتهي، وهذا ما لا يلج في لب عاقل، وهذا مما أثار الخلاف والصراع بينهم حول نسبة هذه المواهب للروح القدس أم للشيطان، باعتبار أنهما من الملائكة، ولهما نفس القدرات.
كتب أحد الباحثين في موضوع التكلم بألسنة، باعتباره أحد أنواع مواهب الروح القدس، ويدعى هذا الباحث (هوكنج) فيقول ما يلي: (كان الرسول يحتم على أنه في حالة استعمال الألسنة، يجب أن تكون هناك الترجمة، حتى يستطيع الكل أن يحكموا فيما إذا كان الكلام من الله أم من روح آخر، فلا تخدع). ثم يتساءل قائلاً: (كيف يتسنى لنا نحن الآن أن ننفذ هذه الوصية (امتحنوا الأرواح هل هي من الله) [1يو 4: 1] إذا كان ما يقال (في التكلم بألسنة) لا معنى له لدى السامعين؟ وإن كان أحد يترجم اليوم، كيف نعلم أن الترجمة ليست كاذبة أيضًا؟ فإذا كانت موهبة الترجمة قد انقطعت مع موهبة الألسنة من الكنيسة، فبالضرورة تكون الترجمة كاذبة).( )